رسالة إلى معلمة الفيزياء – الكاتبة (جيهان الكردي)
منذ طفولتي كان يغريني وجه السماء المعبّد بالنجوم، وصيحة الصباح حين تفتح الشمس عينيها، فأكتب كل ما يلفتُ قلبي، ويحفز خاطري.
حكايتي مع القلم تشبه حكاية كل طفلة مع دميتها، كان القلم دميتي الأثيرة، والورق ملعبي العزيز، لم أكن أشعر بالصفحات كيف تمتلئ، وحين لا أجد من يقرأ لي ويبدي رأيه أشعر بأن العالم من حولي مختلف، أو ربما أنني المختلفة.
كان للمدرسة غالباً تأثير إيجابي في كل المراحل، تلك المواقف سأذكرها ما حييت، فهي التي جعلتني أؤمن بنفسي أكثر فأكثر.
ومثل أي شيء في الحياة يتضمن الإيجابيات والسلبيات، برز موقف سلبي؛ ما حدث أثناء حصّة الفيزياء في الصف التاسع؛ حيث كنت أكتب خاطرة أثناء ذلك بينما كان الطلاب ينقلون حل إحدى المسائل، ولأن جوابي كان صحيحاً لمعتْ في ذهني فكرة لكتابة خاطرة، وبدأتُ أكتب!
واكتشفت المعلمة أمري ونادتني أمام الطلاب طالبةً ما بحوزتي من ورق، قمتُ إليها مثل متهمة تنتظر الإدانة، أخذتْ مني الورقة ومزّقتها، وتمزّق قلبي معها، إضافة إلى كلمات التوبيخ!
لم تكتفِ المعلمة بذلك بل أثّرت على معلمة اللغة العربية التي لطالما شجعتني على الكتابة، الأمر الذي دفع الأخيرة إلى تغيير منهجها معي بدعوى أن الموهبة تعطّلني عن الدراسة.
أقول لكِ اليوم:
أنا هنا لأكتب! لأن مكاني هنا، ولأن الله اختار ذلك، اختار أن أكتب ويقرأ الناس، لا أن يمزقوا الورق!
طُبعتْ هذه الحادثة في ذاكرتي لأنها كانت غضّة، ولكن قلبي لم يكنْ غضّاً، كان قويّاً بما يكفي ليستمرّ ولا يلتفت إلى التمزيق.
بعد سنوات عديدة التقيتُ بمعلمة العربية وعاتبتها عتاب أصدقاء على ما كان في ذاك الزمان، فقالت: ظننتُ أنك ستتوجهين إلى المجالات العلمية كالصيدلة أو الطب أو ما شابه!
لكن الأدب والفن ليس بأقل أهمية من الطب، الطبيب يعالج جروح الجسد، والأديب أو الفنان يرمم جراح الروح، ويسد فراغات عميقة في القلب لا تظهر على جهاز النبض، ولا توصلها سماعات الطبيب.
لستُ هنا لأعرض ذكرياتي، بل هي دعوة لكل المعلّمين أن يرتقوا بأساليبهم في سبيل تعزيز المواهب الموجودة لدى الطلاب لا قتلها.
بالنسبة لي تعدّيتُ الأمر رغم ما سببه لي من ألم حينذاك، ومضيتُ في ذات الطريق ولذلك أنا هنا اليوم!
ولكن كم من مواهب قد تعرضت لصدمات من قبل المدرسة، أو المجتمع، أو حتى الأهل، فيخبو نورها قبل أن يلمح أحدهم فتيلها، وتنطلق الكلمات السلبية، أو النظرات، أو التلميحات بالجنون والعيش في الأحلام والخيال، ولكن هل نبتت بذرة في غير الخيال قبل أن تشبّ ويعلوها الاخضرار؟
من حق أي إنسان أن يعبّر عن اهتماماته ويعمل على تطويرها وصقلها، بل يكاد يكون واجباً، فحين يوظف أصحاب المواهب والطاقات الفريدة في مجتمع ما ويأخذ كل منهم حقه في العمل المناسب له، سينعكس هذا بطبيعة الحال على جودة العمل، وعلى نفسية كل من المنتج والمستهلك.
كل موهبة هي لبنة في بناء المجتمع المتميز، حين نقدّر الموهبة لدى أي إنسان فهذا يعني أننا عثرنا على عمر كامل من العطاء.